كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإما مجاز مرسل إذا روعي فيه قصد التعمية، فعلاقته الإطلاق والتقييد.
والعدول عن الحقيقة إليه لقصد التعمية.
فلا جرم أن يكون المراد بالذين كفروا هنا كفار مكة ويؤيده قوله بعد ذلك: {ولنسكننكم الأرض من بعدهم} فإنه لا يعرف أن رسولًا من رسل الأمم السالفة دخل أرض مكذّبيه بعد هلاكهم وامتلكها إلا النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع «منزلُنا إن شاء الله غدًا بالخَيْف خَيْفَ بني كنانة حيثُ تقاسموا على الكفر». وعلى تقدير أن يكون المراد بـ: {الذين كفروا} في هذه الآية نفس المراد من الأقوام السالفين فالإظهار في مقام الإضمار لزيادة تسجيل اتصافهم بالكفر حتى صار الخصلة التي يعرفون بها.
وعلى هذا التقدير يكون المراد من الرسل ظاهرَ الجمع فيكون هذا التوعد سنة الأمم ويكون الإيماء إليهم به سنة الله مع رسله.
وتأكيد توعدهم بالإخراج بلام القسم ونون التوكيد ضراوة في الشر.
و{أو} لأحد الشيئين، أقسموا على حصول أحد الأمرين لا محالة، أحدهما من فعل المقسمين، والآخر من فعل مَن خوطب بالقسم، وليست هي: {أو} التي بمعنى: {إلى} أو بمعنى: إلاّ.
والعود: الرجوع إلى شيء بعد مفارقته.
ولم يكن أحد من الرسل متبعًا ملّة الكفر بل كانوا منعزلين عن المشركين دون تغيير عليهم فكان المشركون يحسبونهم موافقين لهم، وكان الرسُل يتجنبون مجتمعاتهم بدون أن يشعروا بمجانبتهم، فلما جاءُوهم بالحق ظنّوهم قد انتقلوا من موافقتهم إلى مخالفتهم فطلبوا منهم أن يعودوا إلى ما كانوا يحسبونهم عليه.
والظرفية في قوله: {في ملتنا} مجازية مستعملة في التمكن من التلبس بالشيء المتروك فكأنه عاد إليه.
والملّة: الدين.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {دينًا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا} في آخر سورة الأنعام [161]، وانظر قوله: {فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفًا} في أوائل سورة آل عمران [95].
وتفريع جملة {فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين} على قول الذين كفروا لرسلهم: {لنخرجنكم من أرضنا} [سورة إبراهيم: 13] الخ تفريع على ما يَقتضيه قول الذين كفروا من العزم على إخراج الرسل من الأرض، أي أوحى الله إلى الرسل ما يثبت به قلوبهم، وهو الوعد بإهلاك الظالمين.
وجملة {لنهلكن الظالمين} بيان لجملة {أوحى..}.
وإسكان الأرض: التمكين منها وتخويلها إياهم، كقوله: {وأورثكم أرضهم وديارهم} [سورة الأحزاب: 27].
والخطاب في {لنسكننكم} للرسل والذين آمنوا بهم، فلا يقتضي أن يسكن الرسول بأرض عدوه بل يكفي أن يكون له السلطان عليها وأن يسكنها المؤمنون، كما مكن الله لرسوله مكة وأرض الحجاز وأسكنها الذين آمنوا بعد فتحها.
{ذلك لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ}.
{ذلك} إشارة إلى المذكور من الإهلاك والإسكان المأخوذين من: {لنهلكن}، و: {لنسكننكم}.
عاد إليهما اسم الإشارة بالإفراد بتأويل المذكور، كقوله: {ومن يفعل ذلك يلق آثامًا} [سورة الفرقان: 68].
واللام للملك، أي ذلك عطاء وتمليك لمن خاف مقامي، كقوله تعالى:{ذلك لمن خشي ربه}[سورة البينة: 8].
والمعنى: ذلك الوعد لمن خاف مقامي، أي ذلك لكم لأنكم خفتم مقامي، فعدل عن ضمير الخطاب إلى من {خاف مقامي} لدلالة الموصول على الإيماء إلى أن الصلة علة في حصول تلك العطية.
ومعنى: {خاف مقامي} خافني، فلفظ: {مقام} مقحم للمبالغة في تعلق الفعل بمفعوله، كقوله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} [الرحمن: 46]، لأن المقام أصله مكان القيام، وأريد فيه بالقيام مطلق الوجود لأن الأشياء تعتبر قائمة، فإذا قيل {خاف مقامي} كان فيه من المبالغة ما ليس في خافني بحيث إن الخوف يتعلق بمكان المخوف منه.
كما يقال: قصّر في جانبي.
ومنه قوله تعالى: {على ما فرطت في جنب الله} [سورة الزمر: 56].
وكل ذلك كناية عن المضاف إليه كقول زياد الأعجم:
إن السماحة والمروءة والندى ** في قُبة ضُربت على ابن الحشرج

أي في ابن الحشرج من غير نظر إلى وجود قبة.
ومنه ما في الحديث إن الله لما خلق الرحم أخذت بساق العرش وقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، أي هذا العائذ بك القطيعة.
وخوف الله: هو خوف غضبه لأن غضب الله أمر مكروه لدى عبيده.
وعطف جملة {وخاف وعيد} على: {خاف مقامي} مع إعادة فعل: {خاف} دون اكتفاء بعطف: {وعيدي} على: {مقامي} لأن هذه الصلة وإن كان صريحها ثناءً على المخاطبين فالمراد منها التعريض بالكافرين بأنهم لا يخافون وعيد الله، ولولا ذلك لكانت جملة: {خاف مقامي} تغني عن هذه الجملة، فإن المشركين لم يعبأوا بوعيد الله وحسبوه عبثًا، قال تعالى: {ويستعجلونك بالعذاب} [سورة الحج: 47]، ولذلك لم يجمع بينهما في سورة البينة [8]: {ذلك لمن خشي ربه} لأنه في سياق ذكر نعيم المؤمنين خاصة.
وهذه الآية في ذكر إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين أرضهم فكان المقام للفريقين، فجمع في جزاء المؤمنين بإدماج التعريض بوعي الكافرين، وفي الجمع بينهما دلالة على أن من حق المؤمن أن يخاف غضب ربه وأن يخاف وعيده، والذين يخافون غضب الله ووعيده هم المتقون الصالحون، فآل معنى الآية إلى معنى الآية الأخرى: {أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [سورة الأنبياء: 105].
وقرأ الجمهور {وعيد} بدون ياء وصلًا ووقفًا.
وقرأه ورش عن نافع بدون ياء في الوقف وبإثباتها في الوصل.
وقرأه يعقوب بإثبات الياء في حالي الوصل والوقف.
وكل ذلك جائز في ياء المتكلم الواقعة مضافًا إليها في غير النداء.
وفيها في النداء لغتان أخريان.
{وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)}
جملة: {واستفتحوا} يجوز أن تكون معطوفة على جملة: {فأوحى إليهم ربهم}، أو معترضة بين جملة: {ولنسكننكم الأرض من بعدهم} وبين جملة: {وخاب كل جبار عنيد}.
والمعنى: أنهم استعجلوا النصر.
وضمير: {استفتحوا} عائد إلى الرسل، ويكون جملة: {وخاب كل جبار عنيد} عطفًا على جملة: {فأوحى إليهم ربهم} إلخ، أي فوعدهم الله النصر وخاب الذين كفروا، أي لم يتحقق توعدهم الرسل بقولهم: {لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا}.
ومقتضى الظاهر أن يقال: وخاب الذين كفروا، فعدل عنه إلى: {كل جبار عنيد} للتنبيه على أن الذين كفروا كانوا جبابرة عنداء وأن كل جبار عنيد يخيب.
ويجوز أن تكون جملة: {استفتحوا} عطفًا على جملة: {وقال الذين كفروا لرسلهم} ويكون ضمير: {استفتحوا} عائدًا على الذين: {كفروا}، أي وطلبوا النصر على رسلهم فخابوا في ذلك.
ولكون في قوله: {وخاب كل جبار عنيد} إظهار في مقام الإضمار عدل عن أن يقال: وخابوا، إلى قوله: {كل جبار عنيد} لمثل الوجه الذي ذكر آنفًا.
والاستفتاح: طلب الفتح وهو النصر، قال تعالى: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} [سورة الأنفال: 19].
والجبار: المتعاظم الشديد التكبر.
والعنيد المعاند للحق.
وتقدمًا في قوله: {واتبعوا أمر كل جبار عنيد} في سورة هود [59].
والمراد بهم المشركون المتعاظمون، فوصف {جبار} خلُق نفساني، ووصف: {عنيد} من أثر وصف: {جبار} لأن العنيد المكابر المعارض للحجة.
وبين: {خاف وعيد} و: {خاب كل جبار عنيد} جناس مصحف.
وقوله: {من ورائه جهنم} صفة ل: {جبار عنيد}، أي خاب الجبّار العنيد في الدنيا وليس ذلك حظه من العقاب بل وراءه عقاب الآخرة.
والوراء: مستعمل في معنى ما ينتظره ويحل به من بعد، فاستعير لذلك بجامع الغفلة عن الحصول كالشيء الذي يكون من وراء المرء لا يشعر به لأنه لا يراه، كقوله تعالى: {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبًا} [سورة الكهف: 79]، أي وهم غافلون عنه ولو ظفر بهم لافتك سفينتهم، وقول هدبة بن خشرم:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ** يكون وراءَه فَرج قريب

وأما إطلاق الوراء على معنى من بَعْد فاستعمال آخر قريب من هذا وليس عينه.
والمعنى: أن جهنم تنتظره، أي فهو صائر إليها بعد موته.
والصديد: المُهلة، أي مثل الماء يسيل من الدمل ونحوه، وجعل الصديد ماء على التشبيه البليغ في الإسقاء، لأن شأن الماء أن يُسْقى.
والمعنى: ويسقى صديدًا عوض الماء إن طلب الإسقاء، ولذلك جعل: {صديد} عطفَ بيان ل: {ماء}.
وهذا من وجوه التشبيه البليغ.
وعطف جملة: {يسقى} على جملة: {من ورائه جهنم} لأن السقي من الصديد شيء زائد على نار جهنم.
والتجرع: تكلف الجَرْع، والجرع؛ بلع الماء.
ومعنى: {يُسيغه} يفعل سوغه في حلقه.
والسوغ؛ انحدار الشراب في الحلق بدون غصة، وذلك إذا كان الشراب غير كريه الطعم ولا الريح، يقال ساغ الشراب، وشراب سائغ.
ومعنى: {لا يكاد يسيغه} لا يقارب أن يسيغه فضلًا عن أن يسيغه بالفعل، كما تقدم في قوله تعالى: {وما كادوا يفعلون} في سورة البقرة [71].
وإتيان الموت: حلوله، أي حلول آلامه وسكراته، قال قيس بن الخطيم:
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة ** لنفسي إلا قد قضيت قضاءها

بقرينة قوله: {وما هو بميت}، أي فيستريح.
والكلام على قوله: {ومن وراءه عذاب غليظ} مثل الكلام في قوله: {من ورائه جهنم}، أي ينتظره عذاب آخر بعد العذاب الذي هو فيه.
والغليظ: حقيقته الخشن الجسم، وهو مستعمل هنا في القوة والشدة بجامع الوفرة في كل، أي عذاب ليس بأخف مما هو فيه.
وتقدم عند قوله: {ونجيناهم من عذاب غليظ} في سورة هود [58].
{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ}
تمثيل لحال ما عمله المشركون من الخيرات حيث لم ينتفعوا بها يوم القيامة.
وقد أثار هذا التمثيل ما دلّ عليه الكلام السابق من شدة عذابهم، فيخطر ببالهم أو ببال من يسمع من المسلمين أن يسأل نفسه أن لهم أعمالًا من الصلة والمعروف من إطعام الفقراء، ومن عتق رقاب، وقِرى ضيوف، وحمالة ديات، وفداء أسارى، واعتمار، ورفادة الحجيج، فهل يجدون ثواب ذلك؟ وأن المسلمين لما علموا أن ذلك لا ينفع الكافرين تطلبت نفوسهم وجهَ الجمع بين وجود عمل صالح وبين عدم الانتفاع به عند الحاجة إليه، فضُرب هذا المثل لبيان ما يكشف جميع حتمالات.
والمثل: الحالة العجيبة، أي حال الذين كفروا العجيبة أن أعمالهم كرماد الخ.
فالمعنى: حال أعمالهم، بقرينة الجملة المخبر عنها لأنه مهما أطلق مَثَل كذا إلا والمراد حال خاصة من أحواله يفسرها الكلام، فهو من الإيجاز الملتزم في الكلام.
فقوله: {أعمالهم} مبتدأ ثانٍ، و: {كرماد} خبر عنه، والجملة خبر عن المبتدإ الأول.
ولما جعل الخبر عن: {مثل الذين كفروا}،: {أعمالهم} آل الكلام إلى أن مَثَل أعمال الذين كفروا كرماد.
شبهت أعمالهم المتجمعة العديدة برماد مكدّس فإذا اشتدت الرياح بالرماد انتثر وتفرق تفرقًا لا يُرجى معه اجتماعُه.
ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من اضمحلال شيء كثير بعد تجمعه، والهيئة المشبهة معقولة.
ووصف اليوم بالعاطف مجاز عقلي، أي عاصف ريحُه، كما يقال: يوم ماطر، أي سحابه.
والرماد: ما يبقى من احتراق الحطب والفحم.
والعاصف تقدم في قوله: {جاءتها ريح عاصف} في سورة يونس [22].
ومن لطائف هذا التمثيل أن اختير له التشبيه بهيئة الرماد المتجمع، لأن الرماد أثرٌ لأفضل أعمال الذين كفروا وأشيعِها بينهم وهو قِرى الضيف حتى صارت كثرة الرماد كناية في لسانهم عن الكرم.
وقرأ نافع وأبو جعفر {اشتدت به الرياح}.
وقرأه البقية: {اشتدت به الريح} بالإفراد، وهما سواء لأن التعريف تعريف الجنس.
وجملة: {لا يقدرون مما كسبوا على شيء} بيان لجملة التشبيه، أي ذهبت أعمالهم سدى فلا يقدرون أن ينتفعوا بشيء منها.
وجملة: {ذلك هو الضلال البعيد} تذييل جامع لخلاصة حالهم، وهي أنها ضلال بعيد.
والمراد بالبعيد البالغ نهاية ما تنتهي إليه ماهيتُه، أي بعيد في مسافات الضلال، فهو كقولك: أقصى الضلال أو جِدَّ ضَلال، وقد تقدم في قوله تعالى: {ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالًا بعيدًا} في سورة النساء [116]. اهـ.